فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإِذا افتراضنا التركيب في ذات الله لزم أن تكون هذه الذات محتاجة أو معلولة لعلّة سابقة في حين إنّنا نعرف أنّ الله غير محتاج، وهو العلّة الأُولى لعالم الوجود، وعلّة العلل كلها منذ الأزل وإِلى الأبد.
4- بالإِضافة إِلى كل ما ذكر، كيف يمكن للذات الإِلهية أن تتجسد في هيكل إِنساني لتصبح محتاجة إِلى الجسم والمكان والغذاء واللباس وأمثالها؟
إِنّ فرض الحدود لله الأزلي الأبدي، أو تجسيده في هيكل إِنسان ووضعه جنينًا في رحم أُمّ، يعتبر من أقبح التهم التي تلصق بذات الله المقدسة المنزهة عن كل النقائص، كما أنّ افتراض وجود الابن لله- وهو يستلزم عوارض التجسيم المختلفة- إِنما هو افتراض غير منطقي وبعيد عن العقل بعدًا مطلقًا.
بدليل أنّ أي إِنسان لم ينشأ في محيط مسيحي ولم يتربّ منذ طفولته على هذه التعليمات الوهمية الخاطئة عند ما يسمع هذه التعابير المنافية للفطرة الإِنسانية والمخالفة لما يحكم به العقل البشري، يشعر بالسخط والإِشمئزاز، وإِذا كان المسيحيون أنفسهم لا يرون بأسًا في كلمات مثل الله الأب والله الابن فما ذلك إِلاّ لأنّهم جبلوا على هذه التعاليم الخاطئة منذ نعومة أظفارهم.
5- لوحظ في السنين الأخيرة أنّ جماعة من المبشرين المسيحيين يلجؤون إِلى أمثلة سفسطائية من أجل خداع الجهلاء من الناس في قبول قضية التثليث.
من هذه الأمثلة قولهم أن اجتماع التوحيد والتثليث معًا يمكن تشبيهه بقرص الشمس والنور والحرارة النابعتين من هذا القرص، حيث أنّها ثلاثة أشياء في شيء واحد.
أو تشبيههم ذلك بانعكاس صورة إِنسان في ثلاث مرايا في آن واحد، فهذا الإِنسان مع كونه واحدًا إِلاّ أنّه يظهر وكأنّه ثلاثة في المرايا الثلاث.
كما يشبهون التثليث بالمثلث الذي له ثلاث زوايا من الخارج، ويقولون بأنّ هذه الزوايا لو مدت من الدخل لوصلت كلها إِلى نقطة واحدة؟!
لكننا بالتعمق قليلا في هذه الأمثلة يتبيّن لنا أن لا صلة لها بموضوع بحثنا الحاضر، فقرص الشمس شيء ونورها شيء آخر والنور الذي يتكون من الأشعة فوق الحمراء يختلف عن الحرارة التي تتكون من الأشعة دون الحمراء، وهذه الأشياء الثلاثة تختلف الواحدة منها عن الأُخرى من حيث النظرة العلمية، وهي ليست بمجموعها شيئًا واحدًا من خلال هذه النظرة.
وإِذا صح القول بأنّ هذه الأشياء الثلاثة شيء واحد، إِنّما يكون ذلك من باب التسامح أو التعبير المجازي ليس إِلاّ.
والأوضح من ذلك مثال الجسم والمرايا الثلاث، فالصورة الموجودة في المرايا عن الجسم ليست إِلاّ انعكاسًا للنور، وبديهي أنّ انعكاس النّور عن جسم معين غير ذات الجسم، وعلى هذا الأساس فليس هناك أي إتحاد حقيقي أو ذاتي بين الجسم وصورته المنعكسة في المرآة، وهذه قضية يدركها حتى الدارس المبتدي لعلم الفيزياء.
أمّا في مثال المثلث فالأمر واضح كما في المثالين السابقين، حيث أن زوايا المثلث المتعددة لا علاقة لها بالبداهة بالإِمتداد الداخلي الحاصل للزوايا، والذي يوصلها جميعًا إِلى نقطة واحدة.
والذي يثير العجب- أكثر من ذلك- هو محاولة بعض المسيحيين المستشرقين مطابقة قضية التوحيد في التثليث مع نظرية وحدة الوجود التي يقول بها الصوفيون والأمر الواضح من غير دليل- في هذا المجال- هو إِنّما لو قبلنا بالنظرية الخاطئة والمنحرفة القائلة بوحدة الوجود، لاقتضى ذلك منّا أن نذعن بأن كل موجودات العالم أو الكون هي جزء من ذات الله سبحانه وتعالى، بل الإِذعان بأنّها هي عين ذاته.
عند ذلك لا يبقى معنى للتثليث، بل تصبح جميع الموجودات- صغيرها وكبيرها- جزءًا أو مظهرًا لله سبحانه، وعلى هذا الأساس فلا يمكن تتطابق نظرية التثليث المسيحية بالنظرية الصوفية القائلة بوحدة الوجود بأي شكل من الأشكال، علمًا بأن النظرية الصوفية هذه قد دحضت وبان بطلانها.
6- يقول بعض المسيحيين- أحيانًا- إِنّها حين يسمّون المسيح عليه السلام بابن الله إِنّما يفعلون ذلك كما يفعل المسلمون في تسمية سبط الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام بثار الله وابن ثاره أو كالتسمية التي وردت في بعض الروايات لعلي بن أبي طالب عليه السلام حيث سمى فيها بيد الله، وهؤلاء المسيحيون يفسرون كلمة ثار بأنّها تعني الدم، أي أنّ العبارة الواردة في الحسين الشهيد عليه السلام تعني دم الله وابن دمه.
إِنّ هذا الأمر هو عين الخطأ:
أوّلا: لأنّ العرب لم تطلق كلمة الثأر أبدًا لتعني بها الدم، بل اعتبرت الثأر دائمًا ثمنًا للدم، ولذلك فإِن معنى العبارة أن الله هو الذي يأخذ ثمن دم الحسين الشهيد، وأن هذا الأمر منوط به سبحانه وتعالى، أي أنّ الحسين عليه السلام لم يكن ملكًا أو تابعًا لعشيرة أو قبيلة معينة لتطالب بدمه، بل هو يخص العالم والبشرية جمعاء ويكون تابعًا لعالم الوجود وذات الله المقدسة، ولذلك فإِن الله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دم هذا الشهيد- كما أن الحسين هو ابن علي بن أبي طالب عليه السلام الذي استشهد في سبيل الله، والله هو الذي يطالب ويأخذ ثمن دمه أيضًا.
وثانيًا: حين يعبّر في بعض الأحيان عن بعض أولياء الله بعبارة يد الله فإِن هذا التعبير- حتمًا- من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إِلاّ.
فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة ابن الله الواردة عندهم في حق المسيح عليه السلام أنّها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنّه لا يقبل ذلك، لأنّ المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة لله سبحانه منحصرة بالمسيح عليه السلام وحده وليس في غيره، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية، وما بادر إِليه بعض المسيحيين من الإِدعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز، إنّما هو من أجل خداع البسطاء من الناس.
ولإِيضاح هذا الأمر نحيل القاري إِلى كتاب [القاموس المقدس] في مادة الله حيث يقول هذا الكتاب بأنّ عبارة ابن الله هي واحدة من القاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إِلاّ إِذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي لله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ...} الآية.
غُلُوُّهم في دينهم جَرْيهُم على مقتضى حسبانهم؛ حيث وصفوا- بمشابهة الخلْق- معبودَهم، ثم مناقضتهم؛ حيث قالوا الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، والتمادي في الباطل لا يزيد غير الباطل. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} قيل: نزلت في نصارى نجران قاله مقاتل.
وقال الجمهور: في عامة النصارى، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون: الأب، والابن، وروح القدس إله واحد.
وقيل: في اليهود والنصارى، نهاهم عن تجاوز الحد.
والمعنى: في دينكم الذي أنتم مطلوبون به، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق.
وغلت اليهود في حط المسيح عليه السلام عن منزلته حيث جعلته مولودًا لغير رشده.
وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلها.
والذي يظهر أنّ قوله: {يا أهل الكتاب} خطاب للنصارى، بدليل آخر الآية.
ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمر النصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا.
{ولا تقولوا على الله إلا الحق} وهو تنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد.
{إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} قرأ جعفر بن محمد: إنما المسيح على وزن السكيت.
وتقدم شرح الكلمة في {بكلمة منه اسمه المسيح} ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها.
وهذه الجملة قيل: حال.
وقيل: صفة على تقدير نية الانفصال أي: وكلمة منه.
ومعنى روح منه أي: صادرة، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي، وإنما اخترع اختراعًا من عند الله وقدرته.
وقال أُبيّ بن كعب: عيسى روح من أرواح الله تعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله: {ألست بربكم قالوا بلى} بعثه الله إلى مريم فدخل.
وقال الطبري وأبو روق: وروح منه أي نفخة منه، إذا هي من جبريل بأمره.
وأنشد بيت ذي الرمة:
فقلت له اضممها إليك وأحيها ** بروحك واجعله لها قيتة قدرا

يصف سقط النار وسمي روحًا لأنه حدث عن نفخة جبريل.
وقيل: ومعنى وروح منه أي رحمة.
ومنه {وأيدهم بروح منه}.
وقيل: سمي روحًا لأحياء الناس به كما يحيون بالأرواح، ولهذا سمي القرآن روحًا.
وقيل: المعنى بالروح هنا الوحي أي: ووحى إلى جبريل بالنفخ في درعها، أو إلى ذات عيسى أن كن، ونكر وروح لأن المعنى على تقدير صفة لا على إطلاق روح، أي: وروح شريفة نفيسة من قبله تعالى.
ومن هنا لابتداء الغاية، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أنّ عيسى جزء من الله تعالى، فرد عليه علي بن الحسين بن وافد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله: {وروح منه}، فأجابه ابن وافد بقوله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه} وقال: إن كان يجب بهذا أن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزأ منه، فانقطع النصراني وأسلم.
وصنف ابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر.
{فآمنوا بالله ورسله} أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام.
{ولا تقولوا ثلاثة} خبر مبتدأ محذوف أي: الآلهة ثلاثة.
قال لزمخشري: والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، وأن المسيح ولد الله من مريم.
ألا ترى إلى قوله: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} وقالت النصارى: المسيح ابن الله، والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتيته وناسوتيته من جهة الأب والأم، ويدل عليه قوله: {إنما المسيح عيسى ابن مريم}، فأثبت أنه ولد لمريم أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم، وأنّ اتصاله بالله عز وجل من حيث أنه رسوله، وأنه موجود بأمره، وابتداعه جسدًا حيًا من غير أب ينفي أنه يتصل به اتصال الأبناء بالآباء.
وقوله: {سبحانه أن يكون له ولد} وحكاية الله أوثق من حكاية غيره، وهذا الذي رجحه الزمخشري قول ابن عباس قاله يريد بالتثليث: الله تعالى، وصاحبته، وابنه.
وقال الزمخشري أيضًا إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون باقنوم الأب الذات، وبأقنوم الابن العلم، وبأقنوم روح القدس الحياة، فتقديره الله ثلاثة انتهى.